منذ ظهور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات واتخاذها حيزاً رئيسياً من حياة الانسان اليومية، جذبت اهتمام الباحثين في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، نظراً لارتباطها في مناحي الحياة المختلفة خاصة في عصر العولمة. و من أهم تكنولوجيا المعلومات وأكثرها إثارة في هذا الحقل هو الانترنت وما يشكله من حلقات رابطة بين السياسة والاقتصاد والثقافة.
لعل "القرية العالمية" التي أشار إليها مارشال ماكلوهان في منتصف القرن التاسع عشر هي التي أثارت الأسئلة حول امكانية اندماج الشعوب وثقافاتها لتتحول بالفعل الى قرية واحدة. وعلى الرغم من صعوبة اختبار صحة هذه الفرضيات إلا أن العديد من الأمثلة توضح صعوبة هذا التجانس المطلق. فقد تتغير عادات الاستهلاك اليومية لسلع معينة وكماليات في حياة الانسان لكن من الصعب أن تتغير جوهر العادات والتقاليد والمعتقدات المرتبطة باللغة والدين والمجتمع. ولعل هذا ما يدفع المجتمعات لإعادة انتاج ما هو "عالمي" محلياً. وبهذا قد يكون الانترنت تحدياً للعولمة الثقافية أكثر من كونه محفزاً لها.
إن علاقة الانترنت بالعولمة الثقافية مرتبطة بتدفق المعلومات الهائل في الفضاء الالكتروني، بالاضافة الى موجات الهجرة البشرية بحثاً عن العلم أو العمل. والتي لا يمكن فصلها عن التدفق المعلوماتي في أسواق السياسة والاقتصاد. وعلى الرغم من تعدد تعريفات العولمة الثقافية تبعاً لكل مجتمع ورؤيته الا أن تبني الافكار الجديدة "المعولمة" في المجتمعات ليس بالأمر السهل. وهذا ما يجعل قالب العولمة الثقافية متحولاً من مجتمع لآخر من ناحية التأثير. فتوفر الانترنت والرقابة جعل الفجوة الرقمية تحدياً قوياً أمام خلق مجتمع عالمي متجانس تماماً. ناهيك عن مكونات الثقافة نفسها كالدين واللغة والعادات والتقاليد والمعتقدات التي تشكل سدّاً منيعاً كونها تمثل الهوية الفردية والجمعية.
لعل من التشبيهات الملائمة لوصف التغيرات في المجتمعات هو "المستويات". فيرى الباحث الامريكي جوزيف ستروبار (2008) أن العولمة الثقافية تشكل طبقات جديدة انتقالية في الهوية الفردية والجمعية لمستخدمي الانترنت كما الناظر الى نهر في اسفل المنحدر يرى بشكل جانبي مستويات متعددة للمياه الجارية ويلاحظ أن هناك مستويات جوهرية من المياه لا يمكن الاستغناء عنها ليتم استقبال مستويات جديدة. وهنا يشير الباحث الى مستويات اللغة والدين والتعليم والطبقة الاجتماعية والعرق كمستويات أساسية لا تتجزأ مهما تأثرت أجزاء منها بالعولمة إثر الهجرة المؤقتة أو الاتصال بالانترنت.
وعلى الرغم من محاولات قوى العولمة الاقتصادية والسياسية لنشر ثقافة استهلاكية محددة تخدم المصالح الاقتصادية وبالتالي السياسية عبر وسائل الاعلام، فإن استيعاب المجتمع لهذه المفاهيم الجديدة يبقى في إطار خلفيته الثقافية، نرى ذلك جلياً في ثقافة استهلاك الكولا والجينز والوجبات السريعة التي يتم تمريرها في أفلام هوليوود مثلاُ. وبالرغم من هذا تبقى هذه الثقافة الدخيلة في المرتبة الثانية في اهتمامات الفرد.
ومع ظهور منصات الإعلام الجديد أو الاجتماعي الذي يتيح للمستخدم انتاج سيل المعلومات الخاص به أصبح هذا تحدياً جديداً في العولمة الثقافية. فلم يعد الانتاج المعلوماتي حكراً على طبقة معينة بل أصبح فضاءً مفتوحاً للجميع وعلى الرغم من مساهمة الاعلام الاجتماعي في التقليل من الفجوة المعلوماتية بين المجتمعات الا ان الاختلافات العميقة لا زالت صامدة في وجه التغيير. بل وبالعكس، ففي بعض الحالات رفعت النجاحات العالمية من سقف المتوقع انتاجه محلياً، ويظهر هذا جلياً في عصر أفلام بوليوود الهندية ونوليوود النيجيرية التي اقتبست عن هوليوود إطارها العام وحولته الى انتاج محلي يعكس هموم المجتمعات المنتجة لها.
هذه التحولات قادت الباحثين الى إطلاق تسميات جديدة على القرية العالمية المتجانسة لتصبح قرية متعددة ومتنوعة الثقافات نظراً لتعدد جنسيات وسائل الاعلام المنتجة للصور والأفكار والثقافات. وربما هذا أيضاً ما دفع الصحفي والباحث الامريكي جيمس لول (2000) ليؤكد أن العولمة الثقافية لا تعني بالضرورة هيمنة المجتمع المتطور تكنولوجياً على العالم وتدمير منظومات الثقافات المحلية. ويؤكد أيضاً أن المسافات الجغرافية بين المجتمعات لا زالت عائقاً في وجه العولمة الثقافية بالرغم من توفر الانترنت وغيره من وسائل الاتصال والدليل على ذلك مناطق الهند ورواندا وإثيوبيا والتبت وفلسطين التي لا زالت تعاني نزاعات عرقية وسياسية. ويرى لول أيضاً أن المجتمعات باتت تتصل بالانترنت كإثبات وجود مكانة رمزية لها بين المجتمعات الأخرى.
لعل الانترنت أيضاً يحفز الروابط بين المجتمعات المضطهدة سياسياً كحال اللاجئين الفلسطنيين الذين وجدوا فيه مساحة للتواصل مع اخوانهم في الأراضي المحتلة والشتات. وربما هذا ما يمثل نظرية عالم الاجتماع الاسباني مانويل كاستلز (2004) حول روابط الهوية الجمعية المتينة التي تجمع القوميات المتفرقة سياسياً وغير المحمية بسيادة دولة كاملة. ولعل اتساع حدود الخيارات المتوفرة على الانترنت تجعل من السهل على الفرد أن يختار مجتمعه الافتراضي والذي يكون بالعادة متقارب أو مماثل لثقافته.
ومن ناحية أخرى تلعب اللغة في هذا المجال دوراً صريحاً خصوصاً مع اعتماد اللغة الانجليزية كلغة الانترنت. ومع ذلك تلحظ حرص مواقع الانترنت العالمية ومحركات البحث ومنصات الاعلام الاجتماعي على توفير عدة لغات لضمان الوصول الى أكبر عدد ممكن من المتصفحين. لعل أفضل مثال على ذلك هو الموسوعة الالكترونية "ويكيبيديا" التي وصل عدد اللغات المتوفرة عليها في آب 2007 الى نحو مئة واربعة وسبعين لغة بالرغم من توفر النسخة الانجليزية منها.
"جوجل" أيضاً مثال صارخ على الاهتمام بمحاكاة تعدد اللغات والثقافات، حيث أن لكل دولة نطاقها الرقمي الخاص بها. كصفحة جوجل لتركيا (google.com.tr) أو المملكة المتحدة (Google.co.uk) مثلاُ. وفي نفس السياق يظهر الاهتمام باللغة من خلال الشعار المبتكر لجوجل والذي يحاكي في كل يوم قصة شخصية أو مناسبة عالمية ويوفرها على كل نطاق بلغته الخاصة. ومن ناحية أخرى لا يمكن اهمال ظهور لغة "العربيزي" التي تقلق العديد من الباحثين في مجال اللغة. فإعلان جوجل في اواخر العام 2012 عن اعتماد العربيزي كلغة بحث على محركه أثارت المخاوف حول ركاكة استخدام العربية بهذا الشكل. فالتمسك باللغة هو جزء من الدفاع عن الهوية في وجه عولمة الثقافة وهذا ما قد يفسر نمو اللغة العربية بنسبة 300% في المحتوي الالكتروني.
محاولات الانترنت المتعددة في تجاوز الحدود السياسية والجغرافية لم تفلح في اختراق الحدود الثقافية وتمسك المجتمعات بهوياتها بالحد الأدنى. ويشير كاستلز في هذا المجال الى رغبة الشعوب بالتميّز عن غيرها من خلال هويتها الثقافية الملموسة وهذا ما يشكل تحدياً آخر للعولمة الثقافية وهذا ما يمكن إجماله بشعور المواطنة والانتماء من خلال العادات المشتركة والذاكرة الجمعية والتاريخ والمعتقدات والرموز. إذاً بالرغم من سيل المعلومات العالمي على الانترنت الا أن صلابة الهوية الثقافية وقدرة الشعوب على امتصاص وهضم الثقافات الدخيلة قد يكون بطيئاً نسبياً.
أما الفجوة الرقمية التي تفصل الدول الفقيرة عن الثرية قد تكون مسبباً آخر لتفاوت مظاهر العولمة الثقافية. فتوفر الشبكة العنكبوتية وجودة الاتصال بها مرتبط بشكل مباشر بالحالة الاقتصادية في الدولة وهذا ما يفسر تطور استخدام تكنولوجيا المعلومات في دول الخليج العربي مقارنة بفلسطين والاردن ولبنان وسوريا. ناهيك عن دور الرقابة التي تلعبه الحكومات في ضبط قدرة المواطنين على الوصول الى بعض محتويات الانترنت والتي يظهر أكثر أشكالها تطرفاً في الصين.
إن عالم البحث في علاقة الانترنت بالعولمة الثقافية لن يتوقف مع تسارع التغيرات في هذا الحقل. ومما لا يمكن إنكاره هو تأثير التكنولوجيا على جوانب الحياة المختلفة. لكن من ناحية أخرى لا يمكن للتكنولوجيا أن تلغي الأميّة في ظل الفجوة الرقمية، ولا يمكنها تجاوز العرق والدين والنوع الاجتماعي وغيرها من مكونات الهوية الثقافية. ولذلك فإن التجانس المطلق بين شعوب العالم هو سريالية بعيدة المنال ومبالغ بها حتى وإن تم قولبة ما هو عالمي بإطار محلي. وهذا ما يلخصه جيمس لول بقوله: على الرغم من اتساع نطاق الاتصال بالتكنولوجيا بشكل هائل إلا أنها لن تجعل من العالم شعباً واحداً.